ما كادت تصل إلى خط النهاية، لمسابقة 100 متر عدو، وتتيقن من حصولها على ذهبية دورة ألعاب البحر المتوسط، الُمقامة في الجزائر، وسط تصفيق وتشجيع الجمهور، خاصة الأشقاء الجزائريين، حتى انطلقت، العداءة المصرية الرائعة، بسنت حميدة، تصرخ “أنا عايزة علم … أنا عايزة علم مصر” .
في مشهد، شعرت معه، ككل مواطن مصري، بالفخر والعزة بهذه الأبنة المصرية الوطنية، التي لم تفكر في شيء إلا في علم بلادها، لتلتف به، ولترفعه عالياً بعدما حققت، لمصر، نصراً غالياً، في مجال ألعاب القوى … فهل هناك دليل على الوطنية أكثر من هذا التصرف العفوي النابع من القلب؟!! الله عليكي يا بنت مصر.
وبعدها استكملت بسنت حميده عدوها، ولكن في تلك المرة، باتجاه زوجها، ومدربها، الواقف خلف الموانع الحديدية، يشجعها ويؤازرها، لتمسك بيده وتقبلها، قبل أن تصعد لمنصة التتويج، لاستلام الميدالية الذهبية، مع عزف السلام الوطني المصري، الذي شهدناها تردد كلماته بحماس.
والحقيقة أن تلك المشاهد الثلاثة، التي أسعدت ملايين المصريين، والعرب، إن دلت فإنما تدل على الإخلاص، والعرفان بالجميل، لوطنها الغالي، ولزوجها العظيم، ولعائلتها الرياضية، التي بدا جلياً أنها لم تُورّثها “جينات” حب الرياضة، فحسب، وإنما زرعت فيها حب الوطن، والفخر بالانتماء له.
ولما تابعت حواراتها على شاشات التليفزيون، التي حكت فيها بداياتها من نادي الجيش، بالإسكندرية، تذكرت رحلتي مع السيد المشير طنطاوي، رحمه الله، للإسكندرية، لافتتاح المركز الرياضي الأوليمبي العسكري، الذي أقامته قواتنا المسلحة، وأصبح اسمه نادي الجيش،
وتذكرت كلمات المشير طنطاوي، حينها، لقائد المنطقة الشمالية العسكرية، وهو يقول “المركز ده عملناه عشان نخرج أبطال مصر … دي مهمته الأساسية”. ومع هذا المركز أنشأنا المدرسة الثانوية الرياضية، في المنيا لتخرج لنا أبطال من صعيد مصر.
واليوم، والمشير طنطاوي في رحاب العلي القدير، أظنه سعيد بتحقق أمنيته، بتخرج بسنت حميده من نادي الجيش بالإسكندرية، وحصولها على ميداليتي ذهبيتان لمصر، إذ كافأها الله، بعدها بأيام، بحصد الميدالية الذهبية الثانية عن مسابقة 200 متر عدو.
كما استعدت ذكريات إحدى تجاربي، فاسمحوا لي أن أحكيها لكم، بإيجاز، علّ فيها بعض من الإفادة، متمنياً على الأخ العزيز، الدكتور أشرف صبحي، وزير الشباب والرياضة، ألا يقتصر دور الوزارة على تكريم بسنت، ومنحها مكافأة كبيرة.
فعندما كنت رئيساً لدار الأوبرا، تلقيت اتصالاً من الرئيس الراحل حسني مبارك، ليبلغني أنه استمع إلى صوت جديد، طالباً أن تتبنى دار الأوبرا تلك الموهبة الصاعدة.
وفور أن وضعت سماعة الهاتف، بدأت التفكير في كيفية التعامل الأمثل مع هذا الموضوع، مؤمناً بضرورة اتباع منهجاً علمياً فيه. فكانت أولى خطواتي مكالمة لرئيس الجامعة الأمريكية، بالقاهرة، مستأذناً في زيارة، فورية، لمكتبة الجامعة.
وهناك قابلتني السيدة مارجريت، مديرة المكتبة، بترحاب، مستفسرة عن نوعية الكتب أو المراجع التي أبحث عنها، فأجبتها برغبتي في الاطلاع على ما يتعلق برعاية المواهب الموجودة، بالفعل، حتى تصير نجوماً، فالتقطت أحد الكتب المترجمة، لكاتب ألماني، وناولتني إياه، وكان عنوانه “How to make a star”، أو “كيف تصنع نجماً؟”، فتصفحه، سريعاً، للتأكد من أنه يفي بغرضي.
فوجدته يحكي عن إفاقة ألمانيا، في الساعة الخامسة، من مساء أحد أيام شهر يوليو، من عام 1985، على خبر تتناوله جميع وسائل الإعلام العالمية، يخص أحد أبناءها، ويدعى “بوريس بيكر”، الذي فاز ببطولة ويمبلدون العالمية للتنس، ويتسلم، الآن، جائزته من مندوب جلالة ملكة بريطانيا، بعدما فاز على منافسه كيفن كيورن، ليصبح بذلك أصغر بطل يحمل لقب هذه البطولة، إذا كان عمره، حينئذ، سبعة عشر عاماً.
ذكر الكاتب، في مقدمة كتابه، أنه في تمام الساعة السابعة، من مساء ذلك اليوم، أي بعد ساعتين من إذاعة خبر فوز بوريس بيكر باللقب العالمي، انعقد مجلس الوزراء الألماني، ليناقش هذا الحدث، إذ كانت تلك المرة الأولى التي يفوز فيها لاعب ألماني بهذا اللقب، لواحدة من أهم، وأقدم بطولات التنس العالمية، وأكثرها شهرة في تاريخ اللعبة البيضاء.
وخرج مجلس الوزراء بقرار تشكيل لجنة وطنية لرعاية هذا اللاعب الصغير، تكون مهمتها، الوحيدة، هي العمل على تنمية موهبته الرياضية، وضمان تألقه. على أن تبدأ هذه اللجنة عملها فوراً، اعتباراً من صباح اليوم التالي، بالتواجد في مقر إقامة اللاعب في العاصمة البريطانية، لندن.
تشكلت اللجنة من خمسة أعضاء، هم طبيب نفسي لضمان اتزانه النفسي، ومسئول إعلامي لتدريبه على التعامل مع مختلف وسائل الإعلام، وكذا وضع خطة تسويق اللاعب إعلامياً، ومسئول آخر مهمته الحفاظ على مظهر اللاعب وأناقته، وآخر لتعليمه قواعد الإتيكيت والبروتوكول، وأخيراً وليس آخراً، مدرب تنس محترف، يعمل على صقل المهارات الفنية للاعب.
ومن هذا الكتاب، وغيره، وضعت منهجاً لرعاية المواهب الفنية في دار الأوبرا المصرية، التي أفرزت نجوماً، لازالت تضئ سماء الفن المصري، بل والعربي، وصاروا سفراء يشرفون اسم مصر،
تماماً كما فعلت بسنت حميده، التي يعد فوزها بالميداليات الذهبية، وسام شرف في عدة مجالات، ليس في الرياضة فحسب، ومنها، على سبيل المثال، وليس الحصر، مجال تمكين المرأة، وهو ما لا أظنه سيفوت على الدكتورة مايا مرسي، رئيس المجلس القومي للمرأة، التي تشهد إضافة رمزاً جديداً لرموز السيدات المصريات العظيمات، اللائي يرفعن اسم مصر عالياً، بجهدهن، وإخلاصهن، وانتمائهن.
Email: [email protected]