خلال الأسابيع الماضية، عرضت سلسلة من المقالات، في هذا المكان العالم، تحت عنوان “إلى أين مع بداية عام 2022″، والتي حللت فيها، بشيء من التبسيط، توجهات الدول العظمي، في ظل المتغيرات السياسية التي يشهدها العالم، فتناولت الولايات المتحدة وروسيا والصين ثم مصر.
وبعد نشر كل مقال كان صديقي اللواء محسن السلاوي، مستشار السيد رئيس الجمهورية للمتابعة، يتصل بي للإشادة به، ويقول أنه قطع المقال من الجريدة ليحتفظ به، وهو ما أعتبره شهادة غالية من أستاذ التحليلات الاستراتيجية، في القوات المسلحة المصرية، الذي أنشأ مركز إدارة الأزمات، منذ أكثر من عشرين عاماً، ليعتبر، اليوم، أقوى مراكز إدارة الأزمات في المنطقة.
ترجع صداقتي باللواء محسن السلاوي، منذ أول أيام التحاقنا بالكلية الحربية، بنفس الدفعة، وبعدما تجاورنا في عنبر النوم، خلال فترة المستجدين، ومن يومها صارت الصداقة، التي استمرت لأكثر من خمسون عاماً، حتى يومنا هذا. خلال أيام الدراسة.
كنا نتبادل قضاء عطلة نهاية الأسبوع في منازل بعضنا؛ فأسبوعاً أقضيه معه في منزل أسرته بمنيل الروضة، والأسبوع التالي، أصحبه إلى بورسعيد، لتناول وجبة سمك، من يد والدتي، رحمها الله، والتي كانت سبباً في حب صديقي اللواء محسن للسمك البورسعيدي، وخاصة شورية السمك.
ودارت الأيام وتخرجنا في الكلية الحربية، وساقنا الحظ لنجتمع معاً في لواء مشاه واحد، ولكن كل منا في كتيبة مختلفة. ثم تقرر سفر لواء المشاة، بجميع كتائبه، إلى اليمن، وكانت كتيبة اللواء محسن السلاوي، في مقدمة الكتائب، وبعدها بأسبوع، سافرت كتيبتي، ووصلنا لميناء الحديدة، باليمن، فقضينا اليوم الأول في استلام عربات اللوري الروسية الجديدة، كما استلمنا علبة “تعيين قتال”، وهي مؤن اليوم كله، المكون من ثلاث علب؛ 2 خضار باللحم، والأخرى فول مدمس، وقالب بسكويت، بدلاً من العيش. والحقيقة أنني لم أتناول الطعام طيلة ذلك اليوم.
وفي صباح اليوم التالي، بدأنا التحرك إلى صنعاء، عبر الطريق الأسفلتي الوحيد في اليمن، آنذاك، طريق الحديدة صنعاء، الذي أقامته الصين كهدية لليمن. تم تجميع السائقين، لإبلاغهم بتعليمات السرعة، التي لا يجب أن تتجاوز 20كم/ساعة، على ذلك الطريق الجبلي، الذي يشبه مطالع جبال الألب في أوروبا، والسائقين غير مدربين عليه.
وبدأنا رحلة الصعود حتى أصبح السحاب يتحرك أسفلنا، وفي المساء وصلنا لمنتصف الطريق، في منطقة تسمى مناخه، وسط الجبال الشاهقة، وبرودة تصل إلى الصقيع، لنستريح بها، ونتناول وجبة ساخنة، قبل استئناف رحلتنا، في صباح اليوم التالي، إلى صنعاء.
تصادف تمركزنا في منطقة بها كتيبة مشاه مصرية، لأجد أمامي أخي وصديقي محسن السلاوي، الذي كانت كتيبته مكلفة بتأمين ذلك المكان، فأخذني من يدي، قائلاً “تعالى ناخد شوب عدس سخن”، وقادني لمنطقة الشئون الإدارية، لنحصل على رغيف خبز ساخن، مع كوب عدس ساخن، جاء في موعده تماماً، فقد كنت أتضرر جوعاً،
وما أن انتهيت منه، حتى لحقني بكوب آخر، بعدما لاحظ شديد جوعي، وقال لي محسن أن طباخ الكتيبة من أهلنا بالنوبة، المشهورين بالعدس بالكمون والثوم. وبعد تلك الوجبة الرائعة، التي لازال مذاقها الطيب في ذاكرتي، ذهبت إلى العربة اللوري، الجاز، لأنام في كابينتها، محتمياً صقيع الرياح الباردة، فوق جبال اليمن الشاهقة.
ومع أول ضوء، من صباح اليوم التالي، نادى صول الكتيبة “اصحى … الكتيبة هتتحرك فوراً”، بينما ضابط الحملة المسؤول عن المركبات يفتح الرادياتيرات ليتأكد أن المحلول المضاد للتجمد يعمل، وأن مياه الرادياتير سليمة، فبدأنا، على الفور، التحرك إلى صنعاء، على نفس مطالع ومنازل الجبال، بسرعة 20كم، وسط شديد حذر السائقين، حتى وصلنا إلى صنعاء العاصمة، قبل غروب الشمس، وتقودنا الشرطة العسكرية إلى معسكر الاستقبال للقوات الجديدة التي تصل من مصر.
هناك ذهبنا إلى “الميس”، وأنا أحلم بشوب عدس، آخر، يعوضنا عن صقيع صنعاء القارس، إلا أن العشاء كان عبارة عن قطعة جبنة بيضاء، وحلاوة طحينية، ثم توجهنا إلى خيام النوم، الأشبه بالثلاجات في برودتها، ولففت نفسي في البطانيات الثلاث، بينما أحضر أحد الأصدقاء كمية من الخشب، وأشعل بها النيران، في محاولة بائسة لتدفئة الخيام.
وفي الصباح، تلقينا الأوامر بالتحرك إلى منطقة اسمها بيت السيد، المطلوب تدعيمها عسكرياً، فتحركنا على الفور، وما أن وصلنا إلى المنطقة المحددة، حتى اشتبكت في أول معركة حربية، حقيقية، في حياتي العسكرية، وكان عمري، حينها، ثمانية عشر عاماً،
وقضيت باليمن سنوات متتالية، ضمن القوات المشاركة في حربها، قبل أن أعود إلى مصر، للاشتراك في حرب 1967، وعندما أتذكر ما حدث لنا في اليمن، لا أملك إلا أن أدعو للرئيس عبد الفتاح السيسي، بكل خير وكرم، على حمايته لقواتنا البرية من العودة إلى اليمن مرة أخرى.
وتمضي الأيام، وتظل الذكريات هي أجمل ما نملكه، بعد هذا العمر الطويل، فرغم مرارة تجربة الحرب في اليمن، إلا أنني أفضل أن أستعيد ذكرى حلاوة مذاق شوب العدس الساخن، الذي قدمه لي أخي وصديقي اللواء محسن السلاوي، والذي لازال دعابة بيننا، نستعيدها كما نستعيد ذكرى أكلات السمك البورسعيدية، المتميزة، والتي أعتبرها الألذ والأجمل في مصر.
Email: [email protected]