خلال سِنِى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى عندما كنا نسافر إلى الإسكندرية على الطريق الصحراوى، كان عرض الطريق يسمح بحركة سيارة واحدة فى الاتجاهين، وطوال المائتى كيلومتر كنا نستمتع بمشاهدة الكثبان الرملية والتضاريس الصحراوية الجميلة، وعلى طول هذا الطريق كانت هناك يافطتان إعلانيتان فقط.
كنا كبشر نستمتع بتنقلاتنا وسط الطبيعة التى وهبها الله لمصر، فمثلا كان الطريق لأهرامات الجيزة رائع الجمال.
فعلى الجانبين كانت الأراضى الزراعية الخضراء الشاسعة والأشجار المزهرة، وبالطبع عدد محدود من المساكن تنتشر هنا وهناك ولا إعلانات حاجبة لهذا الجمال.
كنا نستمتع بمشاهدة نهر النيل من أى مكان على جانبيه… هذا كان حالنا نحن جيل أوائل الأربعينيات.
ثم حدث طوفان رهيب بدأ من أواخر القرن الماضى عندما سُمح لأجهزة الدولة بالكامل بتنمية الموارد الذاتية بلا قيد أو شرط، وتشييد النوادى على جانبى النيل، دون الدخول فى تفاصيل، وتوابع القرار انتقلت ليومنا هذا ونحن فى عام ألفين واثنين وعشرين حيث اختفت وحجبت نعمة الطبيعة والجمال من حياتنا، فمن الصعوبة البالغة الاستمتاع بمشاهدة النيل.
كما أن معظم الأحياء بالمحافظات وكأنها فى سباق محموم لتحقيق مكاسب مادية، وأسهل وأسرع طريقة هى السماح بزراعة الإعلانات الضخمة والهائلة الحجم لمنتجات ولأفلام ولمشاريع، بل ولأول مرة لأشخاص فى مهن تخصصية مثل الطب بتخصصاته (وهى ظاهرة لا وجود لمثلها على مستوى العالم).
تتواجد الإعلانات بكثافة وعلى مسافات متقاربة فى كل مكان؛ على أجناب الطرق بالكامل، وعلى مداخل المدن، وعلى الكبارى، وعلى المساكن وأسطحها، وعلى سيارات النقل، وأمام ما تبقى من الأراضى الزراعية، وعلى وأمام الأشجار التى تقلص عددها بشكل مؤسف، وداخل الحدائق، ما حقق وبسرعة جنونية مخالفات التلوث البصرى.
حتى المنتجعات التى هرب لها مواطنون ينشدون الاستمتاع خلال ما تبقى من حياتهم ببعض جمال الطبيعة لم ينجوا من هذا التسونامى، فقد بدأت الإعلانات تحاصر منتجعاتهم لتحجب كل جميل.
قد بلغنا كثافة إعلانية خانقة غير مسبوقة على مستوى العالم أجمع. يضاف لهذه الكارثة المتفاقمة شركات المحمول تبيع كامل معلومات وتفاصيل عملائها لشركات المقاولات ونشاطات أخرى ليزعجوا خلق الله طوال ساعات النهار، بل والليل، ولا يهم أن يكون متلقى المكالمة مريضا أو فى حالة حداد أو وسط اجتماع هام، المهم الدعاية للمنتج أو طلب تبرعات مع تحقيق مكاسب ضخمة لشركات المحمول والفنانين الظاهرين فى الإعلانات، وليذهب المتلقى للجحيم.
حتى الحدائق العامة لم تنجُ، فقد سمحت المحليات بنسف المساحات الخضراء الجميلة ونزع الأشجار لبناء متاجر ومحطات ونشاطات فى كل مساحة غير مخصصة أصلا لمثل هذه النشاطات.
أمواج القبح تحاصرنا من التلوث البصرى المخالف للقوانين، بل لكل ما هو جميل.
أخيرا هل خدمة المواطنين والتجمعات السكانية، بل الوطن، يجب أن يكون لها مقابل؟ .
هل لو طلب من شركة مقاولات عملاقة تحقق مكاسب هائلة من آلاف المشاريع أن تخدم المجتمع بتشييد حديقة عامة مثلا يجب أن يكون مقابل ذلك زراعة إعلان دعائى ضخم أو نصب عملاق وسط الحديقة يساوى ربع مساحتها، بل أحيانا نصف مساحتها، يشمل معلومات واسم وشعار الشركة المتبرعة؟ ألا يكفى يافطة صغيرة جانبية مثل ما هو متبع بدول العالم لتحقيق نبل وجمال الهدف… الرحمة.