أخبارشئون مصريةمنوعات

“اللواء الدكتور سمير فرج “يكتب لـ ” المحروسة نيوز ” عن : عيدك يا أمي أجمل الأعياد

في يوم 16 مارس، 2022 | بتوقيت 3:45 مساءً

بضعة أيام تفصلنا عن الاحتفال بأجمل أعياد الدنيا، عيد الأم، فمن منا لا يحمل لأمه إلا أجمل الذكريات وعظيم الامتنان. فالأم هي أول موجه للطفل في بداية حياته، وهي من يشكل وجدانه وأخلاقه وثقافته، وقد أتاح لي عملي كمحافظ للأقصر، لمدة سبع سنوات، أن أقترب من نموذج الأم الصعيدية، فلمست بنفسي مكانتها الرفيعة، العالية، بين جميع أفراد العائلة، بما غرسته في نفوسهم من عادات، وتقاليد، سامية، قد لا يدركها البعض.

أما أنا، فأمي، رحمة الله عليها، هي معلمي الأول، التي بفضلها اجتزت كل اختبارات الحياة، بتفاوت صعوباتها وتحدياتها، حتى أنني أعجز، بكل الفخر، عن حصر المواقف والأحداث التي تعلمت من خلالها دروساً جديدة، وحتى وإن تذكرتها جميعاً، فلن تكفي السطور لسردها، فاسمحوا لي أن أسترجع معكم واحدة من العلامات الفارقة في حياتي، عندما كنت في الثانية عشر من عمري، وأخبرت أمي، حينها، برغبتي في الاشتراك في المعسكر الدولي للكشافة المقرر إقامته في الفلبين، إذ كنت رئيساً لفرقة الكشافة في مدرسة بورسعيد الثانوية، وكنت أرفع العلم في طابور الصباح، بينما يؤدي سعد أبو ريدة، رحمة الله عليه، التحية العسكرية … وهو ما كان مصدر فخر وعز لنا.

أخبرت أمي برغبتي في الاشتراك، وأنا أعلم مسبقاً، أن الموضوع سيثير بعض القلق لديها، فالرحلة طويلة، 45 يوماً، عن طريق البحر، تستغرق رحلتي الذهاب والعودة 30 يوماً منهم، بينما مدة المعسكر 15 يوماً أخرى. المشكلة الأكبر كانت في قيمة الاشتراك والتي تحددت بمبلغ 45 جنيهاً، وهو ما يوازي، آنذاك، مرتب 3 أشهر لموظف من حاملي الشهادات الجامعية! استمعت لي أمي، ونظرت إليّ قبل أن تبشرني بموافقتها على المشاركة … طرت فرحاً من هول المفاجأة، ولكنها استطردت قائلة “موافقتي مشروطة … سأعطيك كتاباً لتقرأه، ثم تلخصه … وإن اجتزت ذلك الاختبار بنجاح، فستسافر حينئذ”.

وصحبتني أمي، بالفعل، إلى المكتبة، واختارت لي كتاباً بعنوان “سر تقدم السكسونيين”، وطلبت مني تلخيصه فيما لا يزد عن عشر صفحات، في مدة لا تتجاوز ثلاثة أسابيع، وإلا فاتني الموعد الأخير للاشتراك في المعسكر. أمسكت الكتاب في ذهول، وفتحت آخر صفحاته، فإذا ترقيمها 450!!! كيف لي أن ألخصهم في عشر فقط، مع الالتزام بتعليماتها بعدم إغفال أي من أفكاره الأساسية. لم يكن أمامي خيار سوى المحاولة، والاجتهاد، فأنا أعلم، يقيناً، بأنه لا سبيل لإثنائها عن قرارها. ولما كانت والدتي ناظرة المدرسة الوحيدة للبنات في مدينة بورسعيد، فقد أخبرت أحد مدرسي المدرسة بما كان مني ومنها، وطلبت منه الإشراف على ذلك الاختبار. أتذكر جيداً نظراته إلى الكتاب، والذهول الذي أصابه كما أصابني، قبله، وهو يصيح “يا أبلة الناظرة ملقتيش كتاب غير ده؟”، فضحكت قائلة “المرة الجاية أعطه كتاب أرسين لوبين”.

شرعت فوراً في قراءة الكتاب، الذي يحكي تاريخ الإنجليز منذ عصر البخار، إلى عصر المستعمرات في الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وسر نجاحهم وتطورهم. فكان الكتاب، بالنسبة لطفل في عمري، طويلاً، وصعباً للغاية، ناهيك عن حجم المعلومات التي يحتويها، والتي يجب أن ألخصها دونما إخلال بالمعنى، أو تطويل. ونجحت في الاختبار، واعتمدت أمي نتيجته، بالوفاء بوعدها، وسافرت، بالفعل، إلى الفلبين، وعدت منها أكثر نضجاً، وأكثر اعتماداً على النفس. وعرفت، لاحقاً، أن أمي باعت من نصيبها في إرث والدتها، لتدفع تكاليف تلك الرحلة.

ومرت الأيام، وتخرجت في الكلية الحربية، وبُعثت، بعدها بسنوات، للدراسة في كلية كمبرلي الملكية في إنجلترا، لمدة عام، تلك الدولة التي تعرضت لتاريخها، وسر تقدمها، على يد والدتي، من خلال كتاب “سر تقدم السكسونيين”، وخلال النصف الأول من العام الدراسي، طلبت الكلية، من كل طالب، اختيار كتاباً من المكتبة لتلخيصه، فذهبت للمكتبة، واخترت كتاب هنري كيسنجر “كيف تُصنع السياسة الخارجية الدولية”، المؤلف في أكثر من ثلاثمائة صفحة، ولم نكن قد تدربنا، من قبل، على الطرق العلمية المتبعة في التلخيص، فوجدتني أنظر إلى أستاذي، وكأنني أبحث في وجهه عن ملامح أمي. قرأت الكتاب بشغف، واستخلصت منه أهم الأفكار والدروس، ووضعتها في ملخص صغير، عرضته على أستاذي، فحصلت على تقدير امتياز، لأصبح بذلك واحداً من خمس طلاب، فقط، ممن حصلوا على هذا التقدير المرتفع، بل وقررت الكلية عرض ملخصات أولئك الطلاب الخمس، على جميع طلبة الكلية.

استرجعت يومها ذكرى أمي، رحمها الله، وأفضالها في تكوين شخصيتي وإبراز قدراتي، فتعجبت من بعض أمهات هذا الزمان، اللاتي يتبارين لتسليح ابنائهن بأحدث أجهزة للألعاب الإلكترونية. أعلم أن الزمان تغير، وأن التكنولوجيا هي سمة العصر الحديث، ومواكبتها أصبحت ضرورة لا غنى عنها، إلا أن ذلك لا يتعارض مع أهمية الحفاظ على بعض من أساليب التربية التقليدية، التي من شأنها غرز المبادئ، وصقل القدرات لدى الأطفال.

مازال اختبار أمي، واحداً من أهم محطات حياتي، ففضلاً عن المعلومات الهائلة التي تعلمتها من ذلك الكتاب، والتي دفعتني لحب القراءة، إلا أنني أدين لهذا الاختبار بالفضل لما علمني من مبادئ أولية في الحياة … كان أهمها الاجتهاد والمثابرة لتحقيق الغاية … رحمة الله عليك يا أمي … يا من لها أدين بالفضل في كل لحظة من حياتي.

Email: [email protected]

كاتب المقال

اللواء أركان حرب الدكتور سمير سعيد محمود فرج

واحداً من أهم أبناء القوات المسلحة المصرية.

ولد في 14 يناير في مدينة بورسعيد، لأب وأم مصريين.

تخرج، سمير فرج، من الكلية الحربية عام 1963.

والتحق بسلاح المشاة، ليتدرج في المناصب العسكرية حتى منصب قائد فرقة مشاة ميكانيكي.

تخرج من كلية أركان حرب المصرية في عام 1973.

والتحق بعدها بكلية كمبرلي الملكية لأركان الحرب بإنجلترا في عام 1974، وهي أكبر الكليات العسكرية في المملكة البريطانية،وواحدة من أكبر الكليات العسكرية على مستوى العالم.

فور تخرجه منها، عُين مدرساً بها، ليكون بذلك أول ضابط يُعين في هذا المنصب، من خارج دول حلف الناتو، والكومنولث البريطاني.

تولى، اللواء أركان حرب الدكتور سمير سعيد محمود فرج، ، العديد من المناصب الرئيسية في القوات المسلحة المصرية، منها هيئة العمليات، وهيئة البحوث العسكرية. وعمل مدرساً في معهد المشاة، ومدرساً بكلية القادة والأركان. كما عين مديراً لمكتب مدير عام المخابرات الحربية ورئاسة إدارة الشئون المعنوية.

تتلمذ على يده العديد من الشخصيات السياسية والعسكرية البارزة، إبان عمله مدرساً في معهد المشاة، ومدرساً في كلية القادة والأركان المصرية.

لم تقتصر حياته العملية، على المناصب العسكرية فحسب، وإنما عمل، سمير فرج، بعد انتهاء خدمته العسكرية، في العديد من المناصب المدنية الحيوية، ومنها وكيل أول وزارة السياحة، ورئيس دار الأوبرا المصرية، ومحافظ الأقصر. ويشغل حالياً منصب رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لشركة NatEnergy.

وله العديد من الكتب والمؤلفات العسكرية، خاصة فيما يخص أساليب القتال في العقيدة الغربية العسكرية. كما أن له عمود أسبوعي، يوم الخميس، في جريدة الأهرام المصرية ومقال أسبوعى يوم السبت فى جريدة أخباراليوم.