أخبار عاجلةالمنطقة الحرةسلايدرشئون مصرية ومحليات

الخبير السياحى “محمود القيسونى ” يكتب عن : “الرئيس والعسگرية وأنا”

في يوم 26 فبراير، 2022 | بتوقيت 2:00 مساءً

عندما نبلغ العقد السابع من العمر تبدأ ذكريات الحياة تستيقظ وتعود.. ذكريات فى مسيرة الحياة تغمرها ستائر النسيان رغم أهميتها وثقلها فى تشكيل شخصية الإنسان.

فالحمد لله عشت حياة مليئة بالأحداث وعاصرت مواقف وتجارب بالغة الثراء أسجل لمحات منها مرتبطة بالمرحوم الرئيس جمال عبدالناصر حيث كانت أول مرة أقابله فيها عام 1956 أثناء حرب بورسعيد والحصار الاقتصادى الذى فرض على مصر، وكان عمرى وقتها أربعة عشر عاما فقد استيقظت فى منتصف الليل لدخول دورة المياه فلاحظت أن أنوار مدخل شقتنا مضاءة وهو ما دفعنى وانا أرتدى البيجامة وحافى القدمين إلى استطلاع السبب.

فدخلت صالة المدخل الرئيسى لأجد رجلا ضخما يرتدى بدلة ورباط عنق يقف دون حركة أمام باب الشقة من الداخل وأنوار الصالون مضاءة فدخلت لأجد المرحوم والدى مرتديا ملابس النوم والروب جالسا وأمامه الرئيس جمال عبدالناصر وقد خلع الجاكتة وبينهم عدد كبير من الملفات والأوراق وكانوا يتناقشون باهتمام واضح.

فنظر لى الرئيس وقال ما الذى أيقظك؟ فكان ردى الطبيعى أريد دخول الحمام فابتسم وقال تعال سلم على ثم اذهب للحمام وهو ما قمت به وعدت لسريرى، وعلمت بعد ذلك أن الزيارة كانت مفاجأة وأن السبب كان لاستطلاع أفكار المرحوم والدى الخاصة بمواجهة الحصار الاقتصادى، وكان وقتها يشغل منصب وزير المالية وقبل هذه الزيارة بأسبوعين صدر أمر الرئيس جمال عبدالناصر بتدريب الوزراء عسكريا وتسليمهم بنادق حديثة تحسبا لتطور الأمور.

 

وقد سمح لى رغم سنى المشاركة فى كامل التدريبات والتى تمت نظريا على ارض نادى المعلمين المجاور للنادى الاهلى أما التدريب بالذخيرة الحية فتم بالهرم وكانت هذه أول تجربة لى مع العسكرية.

وبسبب نجاح الوالد فى فك الحصار الاقتصادى بل وخداع الإنجليز فى المفاوضات مما حقق مكاسب لمصر أصدر الرئيس جمال عبدالناصر قرار باستثناء أبناء الدكتور القيسونى من شرط مصرية الأب والأم والجد والجدة لدخول الكلية الحربية، فوالدتى كانت بريطانية وولدت أنا ببريطانيا وسط جحيم الحرب العالمية الثانية.

الدكتور عبد االمنعم القيسونى ، وزير المالية بستقبل الرئيس جمال عبد الناصر فى زفاف كريمته وخلف الرئيس المشير عبد الحكيم عامر

ومرت السنون وتقدمت لدخول الكلية الحربية وتم عرضى على المرحوم اللواء محمد فوزى مدير الكلية الحربية عام 1963 والذى وافق على قبولى بناء على استثناء الرئيس وتشكلت حياتى وشخصيتى لتواكب السلك العسكرى. وكان اللواء فوزى مشهور بالصرامة والحزم وهو ما طبقه على شخصى وبشكل مضاعف حتى أكون عبرة ولتأكيد عدم المعاملة الخاصة لظروف منصب المرحوم الوالد والذى كان وقتها نائب لرئيس مجلس الوزراء.

وخلال دراستى بالكلية الحربية قام الوالد برجاء الرئيس حضور زفاف شقيقتى فاشترط عليه الرئيس أن أحضر الفرح بالملابس العسكرية وهو ما تم وكنت فى استقباله مع والدى وحضر معه المرحوم المشير عبدالحكيم عامر وكان واضحًا من الصور التى التقطت وقتها سعادته بدخولى الجيش.

الطالب بالكلية الحربية محمود عبد االمنعم القيسونى بستقبل الرئيس جمال عبد الناصر فى زفاف شقيقته وبجوار الرئيس المشير عبد الحكيم عامر
الدكتور عبد االمنعم القيسونى ، وزير المالية بجواره الرئيس جمال عبد الناصر فى زفاف كريمته والرئيس يوقع أتوجراف لمعجبيه

وأثناء مراسم الفرح حدث أول موقف مضحك بينى وبين الرئيس فقد كان الحر شديدًا مما جعلنى أتصبب عرقا فطلب منى الرئيس خلع الكاب أى غطاء الرأس وكان ذلك على مسمع من المشير عامر والذى كان يجلس بجانبه فكان ردى وبأدب رفض التنفيذ مما أثار دهشة المشير والذى قال لى وهو يضحك «القائد الأعلى للقوات المسلحة أمرك بخلع الكاب فنفذ يا طالب».

الدكتور عبد االمنعم القيسونى ، وزير المالية فى حديث ودى مع الرئيس جمال عبد الناصر فى زفاف كريمته

وللمرة الثانية أرفض فنظر لى الرئيس وقال «لماذا ترفض؟» فانحنيت لاقترب من أذنه وقلت بصوت سمعه المشير «لأن اللواء محمد فوزى مدير الكلية جالس على الجانب المقابل لسيادتكم» فانفجر الرئيس والمشير ضحكا لهذا الرد وقال بسرعة «لك حق خليك لابس الكاب».

الرئيس جمال عبد الناصر يتوسط الصورة مع العروسين ووالد العروس ووالدتها

تلى ذلك عام 1964 استعدادات طلبة الكلية الحربية لاستعراض 23  يوليه العسكرى ومنها تدريب حرس الشرف والذى سيقف على الجانب المقابل لمنصة رئيس الجمهورية بمدينة نصر ساعة قبل وصول الرئيس.

وطوال ساعات العرض العسكرى وحتى مغادرة ركب الرئيس المنصة وهى فتره تتعدى الست ساعات يقف خلالها حرس الشرف من طلبة الكلية الحربية فى حالة ثبات تام بالسلاح وكان يتم اختيار أطول الطلبة لهذا الشرف فكنت وقتها أطول طالب بالكلية الحربية فنلت لقب دليل يمين حرس الشرف والذى كان الطابور يبدأ به وبدأت التدريبات خلال فترات راحة الطلبة تحت إشراف طبى عسكرى حوالى ثلاثة شهور قبل العرض وكل عدة أيام تزيد ساعات الوقوف انتباه وثابت فى الشمس حتى حققنا سبع ساعات كاملة.

وجاء اليوم المنشود فتم نقلنا من الكلية إلى موقع المهمة بكامل ملابس التشريفة والسلاح وأخذنا مواقعنا وحضر السيد رئيس الجمهورية وتمت مراسم تحية العلم، ثم بدأ العرض العسكرى وكان الوالد يجلس خلف الرئيس وبالطبع كان متابعا لهذا الواجب الذى كلفت به طوال الشهور السابقة كنت أقف فى حالة ثبات كامل وانا أتصبب عرقا من شدة الحر وعينى مثبتة على والدى وهو يعلم ذلك.

فأخذ يحتسى المشروبات المثلجة التى قدمت له مع رفع المشروب لأعلى لأشاهده بالطبع لمداعبتى وإغاظتى.

وبعد انتهاء العرض ومغادرة الرئيس للمكان عبر الوالد الشارع واستأذن من قائد حرس الشرف السماح بمقابلتى فصدر لى الأمر بخطوة للإمام والخروج من الطابور وأذكر أنه بعد حوالى ست ساعات من الوقوف ثابتا كانت خطوة بالغة الصعوبة والألم لكنى كنت مدربا تدريبا جيدا.

وقد ارتبطت بصداقة قوية مع المرحوم خالد جمال عبدالناصر منذ سنين الدراسة بمدرسة مصر الجديدة القومية مما سمح لى بزيارة منزل الرئيس على الأقل مرة فى الأسبوع لتناول العشاء مع خالد ومشاهدة فيلم سينمائى.

خالد جمال عبد الناصر
خالد جمال عبد الناصر

وبعد تخرجى وانضمامى كضابط لقوات المظلات داومت على هذه الزيارات ليحدث الموقف المضحك الثانى مع الرئيس فذات ليلة عام 1966 دعانى خالد للعشاء ومشاهدة فيلم وفعلا توجهت لمنزل الرئيس بملابسى العسكرية لضيق الوقت وجلست بعد خلع الكاب بالصف الأول بالقاعة الصغيرة وأمامى منضدة صغيرة عليها طعام العشاء بينما جلس خالد واثنان من الأصدقاء فى آخر صف وتم إطفاء الأنوار.

وبدأ عرض الفيلم، وقد شدنى الفيلم لدرجة اننى لم ألاحظ دخول شخص من باب جانبى وسط الظلام والذى حدث أن الشخص وقف أمامى ليحجب الشاشة ويوجه لى بصوت خافت سؤال «أين خالد؟» وهو ما أثار ضيقى فمددت يدى لجانب ساقه وطلبت منه التحرك لأحد الأجناب وإعادة السؤال.

وفى هذه اللحظة تنبه المسئول عن القاعة للواقف أمامى فأوقف العرض وأضاء القاعة لأجد يدى تحاول دفع الرئيس جمال عبدالناصر القائد الأعلى للقوات المسلحة للجنب وانا الملازم حديث التخرج وهو ما أصابنى بصاعقة من الارتباك والخوف فقفزت واقفا فى وضع الانتباه العسكرى لأيديولوجيا التحية العسكرية بدون كاب وجسمى بالكامل ينتفض ويدى ترتعش بقوة، وأخذت أردد «تمام يا فندم» بصوت عال مما جعل خالد والأصدقاء ينفجرون ضحكا.

أما الرئيس فقد أخذ يربت على وجهى وكتفى ويردد «ازيك يا محمود إزاى والدك؟» اما أنا فأخذت أردد «تمام يا فندم» حتى بعد أن تحرك لمقابلة خالد ثم غادر القاعة.

تلا ذلك الموقف مغادرتى للقاعة وذهابى لمنزلى وانا مصاب بارتباك شديد فى الأمعاء لعدة أيام.

كنت مدربا تدريبا جيدا مما أهلنى للاشتراك فى حرب اليمن ثم معارك يونيه 1967 وما تلاها وتركت الخدمة العسكرية منتصف عام 1977 ورغم مرور اكثر من خمسة وعشرين عاما على حياتى كمدنى إلا أن عسكرية الفريق أول محمد فوزى ما زالت تسيطر على شخصيتى حتى اليوم. رحم الله الجميع.

كاتب المقال

محمود عبد المنعم القيسونى

الخبير الدولى فى شئون السياحة والبيئة

أول رئيس لجنة للسياحة البيئية بالاتحاد المصرى للغرف السياحية

أول رئيس لجنة للسياحة البيئية بالمجالس القومية المتخصصة، التابعة لرئاسة الجمهورية.

ممثل مصر فى كل المؤتمرات الدولية تحت علم الأمم المتحدة ومنظمة السياحة العالمية الخاصة بهذا النشاط الجديد.

 عضو منتخب باللجنة الدولية لأخلاقيات السياحة، التابعة لمنظمة السياحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة لمدة خمس سنوات

ومستشار متطوع لوزير السياحة ووزيرة البيئة لشؤون السياحة البيئية سبع سنوات

   

مقالات ذات صلة