أخبارشئون مصريةمنوعات

مقال قديم جديد ..”محمود عبد المنعم القيسونى” يكتب عن : لكِ الله يا سيوة!!

في يوم 20 فبراير، 2022 | بتوقيت 2:00 مساءً

يقال إن مصر دولة زراعية، وهو ما ينافى الواقع الجغرافى، فنحن دولة صحراوية اخترقها مجرى نهر النيل ليلقى بطميه على الأجناب، فتنشأ مجتمعات زراعية محدودة لا تتعدى الثمانية فى المائة من كل الأراضى المصرية، وتتابعت الأجيال، وارتبط معظم من عاشوا على هذه الأرض الطيبة بوادى النيل، وزرعوا وحصدوا وسجلوا ذلك على صفحات التاريخ،

واليوم.. الحال تبدل، فقد أصبحنا فى الواقع دولة صحراوية أسمنتية وزراعية، تتقلص يوما بعد يوم، فقد طغى عنصر الأسمنت على مساحات شاسعة من الأراضى الطينية المحدودة، ومعظمنا مقتنع بأننا دولة زراعية حتى الآن، وخلال الستين عاماً الماضية تضاعفت أعدادنا عدة مرات، فزحفنا للصحراء المتاخمة لوادى النيل، وظهرت ظاهرة فريدة مع هذا الزحف،

فمع شعار «غزو الصحراء» تعاملنا بنفس عقلية وادى النيل وزراعة الطين والماء الوفير، فكانت النتيجة نكسات ضخمة، وخسائر لا حصر لها، وتحطم أحلام وطموحات، وفَقْد كميات هائلة من المياه العذبة، وللأسف، أطفال مدارس الدول العربية يتعلمون أن مصر الدولة الوحيدة فى العالم التى تبنى على الطين وتزرع الرمال بتكاليف فلكية.

هذه مقدمة كان لابد منها، لأنها مرتبطة ارتباطا كاملا بالحادث بواحة سيوة، جوهرة صحارى شمال أفريقيا، وواحة الينابيع المتدفقة حتى أواخر الخمسينيات، وعروس الصحارى المصرية، وأهم واحة على وجه الكرة الأرضية، فبها الأثر القائم الوحيد فى العالم والمرتبط بتاريخ الإسكندرية الأكبر، كما بها عين كليوباترا الأثرية التى حوّلها رئيس مجلس مدينة سابق أواخر القرن الماضى إلى حمام سباحة بالسيراميك مما أثار استهجانا دوليا وصدمة دفعتنى للاستنجاد بمحافظ مطروح الذى تحرك بسرعة، حيث استدعى أساتذة مهندسين من كلية هندسة الإسكندرية وطلب التدخل العلمى الهندسى لإعادة العين لحالتها التاريخية الأصلية، وهو ما تم بعد ستة شهور من العمل.

فكلما زرت هذه الواحة ارتبكت وظهرت علامات استفهام لا أجوبة منطقية لها، وكنت دائماً أشعر أن هناك لغزا وسرا من الواجب أن أتوصل إليه لو كنت فعلاً أحب هذه الواحة الساحرة.

فهناك عز وجمال عذرى ورخاء لكنه مخفى اليوم لا تراه العين، فمستحيل أن تكون واحة آمون على هذه الحال اليوم، ومستحيل أن يقبل أى عاقل الوقوف مكتوف اليدين يشاهد هذه الواحة وهى فى طريقها للزوال، ويموت نخيلها وأشجار زيتونها وتتملح ينابيعها وأرضها وتدفن بالكامل تحت بحر الرمال الأعظم.

هذه الواحة التى صمدت آلاف السنين جميلة يانعة، يدب الخير فى جنباتها، وأول رمز للمقاومة الشعبية ضد الاحتلال ستلحق بجيش قمبيز الذى حاول تدميرها منذ آلاف السنين وستشارك هذا الجيش نفس القبر. وقررت منذ سنوات الخوض فى هذا اللغز، فجمعت مئات من قصاصات الصحف والمجلات التى تشمل أخبار واحة سيوة والتحقيقات والتصريحات والقرارات المرتبطة بها (من عام 1954 حتى عام 2002 كمثال) ورتبتها فى ملفات ثم درستها بتركيز شديد لأجد الأجوبة والردود تتكشف أمامى، وكانت صادمة بكل المقاييس.

فواحة سيوة الصغيرة تحملت مائتى عين مياه فقط، واليوم بها أكثر من ألف ومائتى عين، وواحة سيوة تتحمل زراعة سبعين ألف فدان فقط كما تتحمل عشرين ألف ساكن فقط، وما حدث ويحدث لهذه الواحة وبانتظام هو دفعها دفعاً للتصحر، فبينما دول العالم تبذل جهودا جبارة لمكافحة التصحر، نحن نقوم بالعكس فى هذه الواحة، وأسجل مختصر دراستى من الصحف، التى نشرت خلال هذه السنوات، حيث توصلت لهذه الإحصائية المبدئية والتى تمثل 20 % فقط من إجمالى المعلن فعلاً.

إجمالى ما نشر بوسائل الإعلام من جانب المسؤولين والأجهزة المسؤولة يؤكد أن الميزانية التى خصصت وصرفت على سيوة خلال الفترة من 1954 حتى 2002 تتعدى التسعمائة مليون جنيه وأكثر من مائتى مليون دولار، وهى أرقام خيالية لا نتيجة واقعية لها، وأنه تم استصلاح وتجهيز أكثر من ثمانمائة ألف فدان، وبالطبع مساحتها وإمكانياتها لا تسمح بذلك.

كما أن هذه المساحات لا وجود لها، وأنه تمت دراسة تهجير حوالى خمسين ألف مواطن لسيوة لاستغلال إمكانياتها الطبيعية الضخمة، وهو ما كان سيشكل كارثة لو تم التنفيذ، وأن مسؤولى الدولة على علم كامل بأخطر مشكلة تهدد بقاء سيوة.

وهى مشكلة صرف المياه الزائدة بسبب الحفر العشوائى وغير القانونى لآبار المياه، لكنهم اختاروا الأساليب غير المجدية، والحال مستمرة حتى اليوم، رغم أنهم تلقوا دراسات علمية من مؤسسات عالمية ومحلية، تشمل الأسلوب الأمثل لعلاج هذه الكارثة المحققة ووقفها، فحفظت فى المكاتب.

ومعروف للجميع أن سيوة هى الواحة المأهولة الوحيدة فى مصر، بل فى العالم، والتى تقع بمنخفض أقل من سطح البحر بحوالى سبعة عشر متراً، يضاف لذلك أن التركيب الجيولوجى للتربة طبقى لا يسمح بتسرب المياه، وبالتالى الأسلوب الوحيد المسجل والمعلن لإنقاذ سيوة منذ حوالى خمسين عاماً هو دفع المياه الزائدة إلى منخفض آخر بعيد.. وما أكثر المنخفضات حولها!.

وذلك بواسطة الطاقة الشمسية واستغلال هذا المشروع فى الزراعة الصحراوية المتخصصة، وثبت لى أن كل هذه الحلول وكل هذه المشروعات لم ينفذ معظمها، كما ذُكر عدة مرات إنشاء مستشفى متكامل الخدمات والتجهيزات لخدمة أهالى الواحة (الذين فى أشد الحاجة لهذه الخدمة الإنسانية الأساسية، كما ذكر فى التقرير الطبى لمشروع الأمل الأمريكى) وضيوفهم من السياح، نفذت المبانى ويتم تجهيزها بكامل الخدمات لمدة يومين عند زيارة رئيس الوزراء فقط، ثم تعود فورا لحالها الدائمة من جدران أسمنتية خالية، وكل هذه الأرقام والتصريحات ذهبت أدراج الرياح.

وسيوة تتجه لمصيرها المحتوم يوماً بعد يوم. وإن من الأسباب الرئيسية لحتمية هذا المصير تصميم المسؤولين بوزارة الرى ووزارة الزراعة على التعامل مع مشاكل هذه الواحة على أنها أرض طينية خصبة مسطحة، وأن ما يتبع ويطبق بوادى النيل يتبع ويطبق بها من نظم الرى والصرف.

ويومياً يتم سحب المياه الزائدة من موقع ودفعها لمواقع أخرى داخل هذا الحوض المصمت، ليبقى الحال كما هو وتستنزف أموال الدولة، ويومياً تُحفر آبار جديدة فى جنح الظلام، وسيوة إلى زوال، فعدد الآبار التى تتدفق منها المياه العذبة لا يتعدى أصابع اليدين، بينما كل الآبار والعيون الأخرى مياه غير صالحة للشرب، ومعظمها غير صالح للزراعة، وتستخدم فقط فى الترفيه وإنتاج الملح المستخدم فى بناء مساكن سيوة التراثية..

وهو ما دفع سكان الواحة إلى دفن موتاهم بالهضاب المرتفعة المحيطة بالواحة، بسبب استحالة الدفن بأرضية الواحة لتسرب المياه المتزايدة واقترابها من سطح الأرض..

وكل ما كسبته خلال حوالى ستين عاماً هو كم هائل من التصريحات والوعود، التى سجلتها وأعلنتها الصحف القومية والمجلات. حسبى الله ونعم الوكيل.. لكِ الله يا سيوة.

كاتب المقال

محمود عبد المنعم القيسونى

الخبير الدولى فى شئون السياحة والبيئة

أول رئيس لجنة للسياحة البيئية بالاتحاد المصرى للغرف السياحية

أول رئيس لجنة للسياحة البيئية بالمجالس القومية المتخصصة، التابعة لرئاسة الجمهورية.

ممثل مصر فى كل المؤتمرات الدولية تحت علم الأمم المتحدة ومنظمة السياحة العالمية الخاصة بهذا النشاط الجديد.

 عضو منتخب باللجنة الدولية لأخلاقيات السياحة، التابعة لمنظمة السياحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة لمدة خمس سنوات

ومستشار متطوع لوزير السياحة ووزيرة البيئة لشؤون السياحة البيئية سبع سنوات

المقال نقلاً عن المصرى اليوم وتم نشره يوم الأحد 17-07-2016