كل حين وآخر أسترجع ذكرياتى مع والدى المرحوم الدكتور عبدالمنعم القيسونى نائب رئيس الوزراء الأسبق فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر والرئيس الراحل أنور السادات.
فمن المؤكد أن كل من عرفوه أو عملوا معه سيؤكدون أنه كان إنسانا متواضعا جداً ورفيع الخلق وعفيف اللسان، وكان داخل منزلنا إنسانا غاية فى البساطة محبا لأسرته نجده فى كل مكان حولنا أثناء اللعب وأثناء المذاكرة وحتى بالمطبخ حيث كان يعاون والدتى، وكانت جملته الشهيرة التى كررها أمامنا آلاف المرات أن من تواضع لله رفعه، وأن المناصب زائلة وهى كلها مظاهر كاذبة تزول فور زوال الوظيفة وواجب ألا ننخدع ببريق ومظاهر المنصب، وشاء الله أن تكون دروسه وتربيته لنا عملية وقاسية للغاية.
فقد كان دائماً يصر على ألا نسعى للتميز على أحد فى مسيرة حياتنا كأطفال ثم كصبية ثم كشباب ثم رجال، بل كان يدفعنى إلى قبول ما هو أقل من الجميع وبرضى واقتناع حتى لا نسمع الجملة الشهيرة (أصل أبوه وزير)
ويعلم الله أن حياتى لم تكن سهلة بالمرة لكن الحمد لله على كل شىء وأذكر أكثر دروس الحياة قسوة واجهتها أسرتنا عندما خرج من الوزارة بشكل مفاجئ، ودون حتى إنذار، فقد كنت فى إجازة 24 ساعة من الجبهة بعد نكسة يونية 67 وكنت برتبة ملازم أول مظلات فصباح اليوم التالى، وقبل تحركى عائدا لموقعى على جزيرة البلاح وسط قناة السويس.
قمت كعادتى بإعداد صينية شاى الصباح لوالدى ووضعت صحف اليوم على الصينية ودخلت غرفتهم فسلمت الصحف للسيد الوالد، ثم جلست أصب الشاى لهما، وسمعته يقول لوالدتى الصحف أعلنت أننى خرجت من الوزارة، وهو ما شكل صدمة ومفاجأة لنا وعند مغادرتى المنزل عائدا للجبهة.
شاهدت لورى أمام المنزل تم تحميله بكشك جندى الحراسة، وتحرك اللورى مغادرا ومعه أيضا الجندى وعلمت فيما بعد أنه تم الاستغناء عن كل قيادات الوزارة أصحاب الاتجاه الغربى الرأسمالى. وكان اليوم السابق للقرار والأسابيع والشهور والسنين لا يكف رنين التليفون فى منزلنا، فهذا يسأل عن الأسرة وهذا يسأل عن صحة الباشا إلخ، وفجأة وكأن سكينا حادا هبطا على حياتنا وقطع أسلاك التليفونات والمجاملات وباقات الزهور فى المناسبات بل والزيارات توقفت كل هذه الظواهر لمدة خمس سنوات ونصف كاملة.
وكانت تربية المرحوم الوالد قد أعدتنا لمثل هذه الظواهر، والتى هى فى الواقع الحقيقة، وما سبقها كانت مظاهر كاذبة ونفاقا مرتبطا بالجلوس على المقعد السحرى الملقب بالوزارة.
كنت أشاهد المرحوم والدى يجلس وحيدا بحديقة المنزل طوال هذه السنين يدرس الجوانب الاقتصادية فى القرآن الكريم، وفجأة انقلبت الدنيا على رأسنا جميعاً عندما أعلنت الصحف صباح يوم أن السادات استدعى والدى لاستراحة الرئاسة بالقناطر الخيرية أوائل عام 1971 ولم يذكر سبب هذا الاستدعاء.
فقد انهالت المكالمات التليفونية والمجاملات والزيارات بشكل مذهل بكل المقاييس لمدة عشرة أيام ثم خبت وانعدمت مرة أخرى عندما لم يذكر اسم والدى فى أى تشكيل وزارى علماً بأن سبب المقابلة والتى لم تعلن فى ذلك الوقت هو مطالبة الوالد بتأسيس أول مصرف مصرى دولى فى مصر والعالم العربى ومرت ثلاث سنوات أخرى ووالدى ونحن معه شبه معزولين عن العالم .
حتى ظهر اسمه فى منصب النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء أوائل عام 1975 بعد نجاح سعيه لعلاقته الشخصية بالملك فيصل رحمه الله وأسكنه فسيح جناته وأمراء وشيوخ دول الخليج- إقراض مصر قرضا ميسرا أنقذها من أزمة اقتصادية طاحنة فعادت شلالات المظاهر الملاصقة للمنصب مرة أخرى تنصب على رؤوسنا فى منزلنا حتى استقالته المسببة من الوزارة بعد ثلاث سنوات بسبب قراراته الاقتصادية لإنقاذ مصر من مشاكل اقتصادية بالغة التعقيد وأحداث يناير 1977 المدبرة ومغادرة مصر للعمل فى منصب بنكى دولى خارجها بدعوة وإصرار عدة دول عربية حتى وفاته.
وحتى بعد وفاته بحوالى عام أصيبت الأسرة بصدمة مؤلمة غير متوقعة فشريكة عمره وكفاحة منذ عام 1940 والإنسانة التى واجهت معه كل مصاعب الحياة ونجاحاتها، وكانت دائماً تقف خلفه كالظل تسانده وتعينه وأقصد والدتى رحمها الله تم سحب الميزة الوحيدة التى منحت لها شخصياً من الحكومة فى حياة المرحوم والدى أى جواز السفر الدبلوماسى.
وهو ما أكد تجاهل وشطب كل هذه الإنجازات وفى خريف عمرها بعد فراق شريك حياتها، ويعلم الله أننى طرقت أبواب وزارة الخارجية لطلب رد الجواز لها لكن كل الأبواب أغلقت فى وجهى.. وهذا هو واقع الحياة.